هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


غاليري الإبداع الأدبي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخولدخول  

 

 أسلاك شائكة الفصل الأول مصطفى لغتيري

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
مصطفى لغتيري
Admin



عدد المساهمات : 14
تاريخ التسجيل : 28/04/2014

أسلاك شائكة  الفصل الأول   مصطفى لغتيري Empty
مُساهمةموضوع: أسلاك شائكة الفصل الأول مصطفى لغتيري   أسلاك شائكة  الفصل الأول   مصطفى لغتيري Emptyالثلاثاء أبريل 29, 2014 9:43 am

مع إطلالة نور الصباح الأولى، غادر "احميدة" فراشه، تمطط للحظات على مضجعه،مدد أطرافه بانتشاء ، كان يستهويه أن يسمع فرقعة عظامه كل صباح، يشعره ذلك بالسعادة ، و يمنحه القدرة على القيام بما ينتظره من عمل.. ألقى نظرة مبتهجة على وجه " الزاهية" زوجته المستلقية بجانبه ، تملى في صفحة وجهها الجميل ،بملامحه المتناسقة وابتسامته الخفرة، التي لا تكاد تفارق شفتيها حتى وهي مستغرقة في النوم ..كل ذلك يبعث في نفسه شعورا بالانتشاء ، ويلقي في ذهنه وقلبه إحساسا لا يخبو توهجه،يتردد للحظات في دواخله ، فيقنعه بأنه استطاع أن يغنم من الحياة أفضل ما فيها..

جال ببصره في أرجاء الغرفة.. بعض من غبش الصباح المبكر ما يزال يترنح في الأجواء، فكر في فتح النافدة ليتسلل الضوء إلى الغرفة ، لكنه تراجع عن ذلك، حين استرق نظرة خفرة نحو الزاهية ..لم يرغب في إفساد لحظاتها الاخيرة في رحاب نومة الصباح البهية.. صوت الديكة يصله تباعا ينقطع للحظات ثم مايلبث أن يلعلع قويا، وجميلا، يخترق الصمت الصباحي السادر في فتنته، يحفز الناس على مغادرة افرشتهم، كي ينخرطوا في خضم يوم جديد..تسلل احميدة من فراشه مشى بخطوات هادئة وصامتة نحو الباب .. بتؤدة فتحه ،وبكثير من الاحتراس غادر الغرفة ،ثم اغلق بابها..استقبلته نسمات خفيفة باردة ومحفزة، أطاحت بما تبقى في جسده من خدر النوم مباشرة توجه نحو المغسل إنه عبارة عن حوض صغير تتجمع المياه فيه...رش وجهه بحفنة ماء، ثم خلل شعره ببعضه...توجه نحو الحبل المتمدد في البهو، أمسك بمنشفة.. مسح وجهه ثم القى بها على كتفه.

في البيت الذي استقر به منذ ما زيد عن سنة تقريبا، بعد أن تنقل في أماكن عدة ، توجد باحة متوسطة المساحة.. وسطها تتنصب شجرة تين يانعة الخضرة.. اقترب منها ..نظر إليها بتحبب ، ثم ما لبث أن توجه نحو باب المستودع ..فتحه.. ألقى نظرة متفحصة على عدة العمل البسيطة التي يملكها.. في ذهنه ترتع أحلام لا ضفاف لها، يمني نفسه بامتلاك المزيد من الآلات الفلاحية ، لتسعفه في الاعتناء بالأرض ، التي ورثتها زوجته الزاهية عن أبيها، الذي قضى نحبه خلال معركة مقاومة الاحتلال الفرنسي.. كانت الزاهية تعتز بأبيها أيها اعتزاز. دوما تحدث زوجها عنه بكثير من الألق، حتى أنه كان يشكك في كثير ما تحكيه عنه. في حديثها دوما تطفر تلك الصورة المجللة بالكبرياء لرجل يأبى الظلم، ولا يصبر على ضيم، منذ شبابه المبكر انخرط في صفوف المقاومة الجزائرية. ومع ذلك لم يهمل أرضه أبدا. كان يجد الوقت الكافي الاهتمام بها، ولا يسمح لنفسه أبدا بأن يهملها ..منه تعلمت الزاهية الشيء الكثير عن الأرض وما تحضنه من نباتات ..حين اختطفته رصاصة غادرة، وعدت الزاهية نفسها بأن لا تفرط مطلقا في الأرض، مهما يحدث ..هذا الاصرار على الاعتناء بها وجد وقعا حسنا في نفس احميدة، الذي لم يكن قبل لقائه بالزاهية وارتباطه بها ، يتصور أنه في يوم من الأيام سيصبح فلاحا ، كل همه رعاية الارض ، و ما تجود به تربتها .. لقد أغوته التجارة والترحال منذ زمن بعيد. تنقل بين مدن عدة، يشتري البضائع من هنا ،ويبيعها هناك ..اعتاد على هذا النوع من الحياة ..كل يوم يأتي برزقه ن وقد تمر أيام دون أن يظفر بشيء ذي بال ، و رغم كل شيء أحب حياته كما هي ، ولم يكن ينوي ابدا تغييرها. . ما إن تقاطعت طريقه بطريق الزاهية حتى انقلب رأسا على عقب .. حياته تغيرت بشكل جذري ، فلم يندم على شيء ، حين قرن مصيره بمصيرها ، لقد سلبت لبه ، فكان لزاما أن ينخرط في حياتها بكل تعقيداتها.

انطلاقته بدأت من مدينة فاس ، هناك قضى طفولته يتنقل في حواريها يركض هنا وهناك ، يتلصص على هذا الدكان، ثم ينتقل إلى آخر.. استهوته التجارة منذ نعومة أظافره.. حاول أبوه أن يدفع به إلى أكثر من صانع تقليدي ليتشرب أسرار الصنعة منذ صغره، بيد أنه أبدا لم يستمر في كنف أي "صنايعي" أكثر من يوم واحد، سرعان ما يستبد به الملل ويركض هاربا إلى حيث لا يعثر عليه أحد ..فقط كان يتمنى لو تمكن من الحصول على دكانه الخاص، الذي يمارس فيه تجارته.. هذا الحلم ظل مترسخا في وجدانه ، وقضى على اي امل في أن يتعلم اي حرفة غير التجارة.. حين يئس منه أبوه ، وأخذ يقسو عليه بالكلام الجارح، ويهدده بالطرد من البيت، شد الرحال نحو مدينة صفرو القريبة من مدينة فاس. هناك تحول من التفكير في التجارة إلى الانخراط في أجوائها، بدأ ببيع أدوات بسيطة يحصل عليها بطرق مختلفة، ثم يجوب بها الأزقة. يعرضها على أصحاب الدكاكين، فيحصل على بعض الربح القليل ، الذي كان يقنع به في تلك الأثناء. مع التجارة تسللت إلى نفسه لوثة الترحال واستقرت في سويداء قلبه.. بعد فترة زمنية معينة غادر المدينة ومضى غير آسف على شيء. ألقى بنفسه إلى المجهول. وجهته الشرق الغامض والساحر. هناك حيث يدنو حثيثا من الحدود، ففي تلك المنطقة يمكنه أن يمارس شغفه بالتجارة بالطريقة التي تلائمه. دوما تكون الحدود بين الدول واعدة في هذا المجال، هناك تنشط كل أنواع التجارة المشروعة و غير المشروعة..

بعد تنقله في مدن عدة استقر به المقام في مدينة وجدة الحدودية. من هناك تطلع إلى الجانب الموالي للحدود، الحركة دائبة ولا تستقر على حال، الجزائريون يتدفقون على مدينة وجدة بكثافة ملحوظة. في السابق لم تكن لدين فكرة واضحة عن هؤلاء القوم، رغم أنه سمع عنهم الشيء الكثير، لكن ما سمعه كان في غالبه مبهما ومتناقضا.

تفاجأ كثيرا حين التقى بالكثيرين منهم. بدوا له مثله ومثل باقي الناس الذين يعيش بين ظهرانيهم. لا يختلفون عنهم في شيء. سحناتهم متشابهة. تحيتهم.. ملابسهم.. فقط تختلف اللهجة قليلا، لكنها قريبة جدا من لهجة الوجديين. ما إن خرج بهذا الانطباع حتى ترسخ في ذهنه الاقتناع بأن يجرب حظه هناك، في الضفة الأخرى، فانطلق لا يلوي على شيء سوى أن يرمي بنفسه في أحضان فكرة غامضة لا ملامح لها لكنه لم يتردد في تنفيذها ، دوما اكتلك ذلك الحس المجازف الذي لا يقوى على العيش بدونه..

انتقل إلى هناك بيسر لم يتوقعه ،و تدريجيا اعتاد الأجواء في مستقره الجديد.. برع في تجارته، وإن كان المال دوما يتسرب من بين يديه بشكل لا يكاد يصدقه هو نفسه.. كان يحب أن يستمتع بالمال، ينفقه دون أن يرف له جفن.. اقترح عليه بعض التجار الكبار أن ينقل البضاعة إلى مدن جنوبية في أقصى جنوب الجزائر، فلم يتردد في فعل ذلك. بسرعة حصل على رخصة السياقة، وأخذ ينتقل بالبضائع في كثير من المدن.

التفت احميدة نحو باب الغرفة، الذي انفتح فجأة. أخرجه انفتاحه من شروده. رأى الزاهية تعلن عن نفسها ببذخ، جميلة كانت و حانية. في عينيها وسحنتها رقة لا تخفى على النظر.. زادها انتفاخ بطنها أنوثة. بين شفتيها تحمل ابتسامتها الخجلى. خداها يتألقان بغمازتين تزيدان وجهها بهاء. دنت منه ثم حيته قائلة:

- صباح الخير

انتقلت عدوى الابتسامة إليه فرد عليها:

- صباح الخير بأم المهدي.

زادت ابتسامتها اتساعا وتألقا. اكتست سحنتها بكثير من الغنج والإشراق،

ردت عليه قائلة:

-لا أبدا. بل أم المهدية.

ارتفعت قهقهته في الأجواء، مسح وجهها بنظرة حانية ، ثم خاطبها قائلا:

- المهم أن تنجبي طفلك بألف خير. ما يأتي به الله خير وبركة. لكنه سيكون المهدي إن شاء الله.

لم ترد الزاهية بأي كلمة. اكتفت بابتسامتها الجذلى. تعرف حق المعرفة تعلقه برجائه في أن يكون المولود ذكرا. هي نفسها ترغب في ذلك، وإن كانت تأبى أن تعلن عن رغبتهان وتتمسك بالإعلان عن أن المولود سيكون بنتا، لا تدري السبب الذي يدفعه إلى فعل ذلك. لكن الأمر يستهويها، تعرف أن احميدة رجل طيب. يحبها كثيرا وسيعتني بها وبمولودها حتى وإن كان بنتا. حتما سيفرح بحلولها بينهما، وسيحيطها بعنايته وعطفه. لقد اختارت أن تكون له زوجة رغم غربته. لم تر له أبوين أو أقارب. يحدثها من حين لآخر عن عائلته المستقرة في مدينة فاس ، دون ان يشعرها بالحنين إليها. لقد اكتفى بها واكتفت به. اعتبرت وحدانيته رسالة ما توجهها الأقدار إليه. هي نفسها يتيمة ووحيدة. فمنذ موت المرحوم الحاج الطاهر، اعتبرت نفسها في أقصى درجات اليتم. أمها "فطوم" رغم تواجدها، فهي امرأة سلبية، لا تهش ولا تنش. طيبة زيادة عن اللزوم، ولا يعول عليها في شيء. لقد دللها الحاج الطاهر كثيرا، بل أفسدها، حتى أنها لا تكاد تعرف عن الدنيا من حولها شيئا، كل هذا جعلها ترتمي في أحضان احميدة، الذي لم يتردد في التخلي عن كل شيء من أجله وربط قدره بقدرها.

بخطى متثاقلة اتجهت الزاهية نحو غرفة أمها. في طريقها قامت بحركات متباطئة ، جادت بها يداها المتكاسلتان، تحاول من خلالها إخافة الدجاجات ، التي تحلقت وسط الفناء. طردتها بعيدا. دقت على باب الغرفة، تحرض أمها على مغادرة الفراش، كي تساعدها في الاستعداد ليوم جديد. بتكاسل غادرت "فطوم" غرفتها. استقبلتها الزاهية بابتسامة محفزة، وكلمات تعرف الأم معناها جيدا. مفادها أن أعمالا كثيرة تنتظرها، أهمها حلب البقرة، التي وضعت- قبل شهرين تقريبا -عجلا لطيفا، جميل المنظر .. كان يستهوي "فطوم" القيام بهذا العمل ، فتبرع في إتقانه.. تحمل إناء، وتتجه نحو الحظيرة ،التي تقبع ملاصقة للبيت. تبعد العجل عن أمه، فيصبح مشاكسا، يحاول في كل لحظة أن يشاركها الثدي الممتلئ حليبا.. بعد لأي تنال ما تمني النفس به من حليب، ثم تفسح المجال للعجل، كي يحظى بكفايته. تلقي عليه نظرة امتنان على البقرة و عجلها ..تحمل إناءها، وتتجه نحو البهو.. هناك تنخرط في عملها المحبوب، تصفي الحليب، وتوزعه على بعض الأواني الأخرى ، في انتظار أن تستخرج من بعضه الزبدة ، ومن بعضه الآخر أشياء تنوي القيام به دون أن يفطن لها أحد.

أعدت الزاهية طعام الفطور، فيما كان احميدة منشغلا بجهاز الراديو الكبير الحجم، الذي اقتناه قبل أيام في صفقة رابحة مع أحد أصدقائه التجار. الذي اعتاد التعامل معه قبل أن تسرقه الفلاحة إلى أحضانها. الجهاز يستقر في غرفة النوم، لكنه اللحظة، يحمله احميدة إلى البهو حيث سيتناول فطوره رفقة الزاهية وحماته فطوم. وضع الجهاز على منضدة ثلاثية القوائم.. حمل البطارية، ووضعها جانبا على الأرض، مد الأسلاك. قلبه مبتهج بهذه الأجواء الجميلة، التي يعيشها بشغف لا يصدق. الضوء يكتسح العالم بشكل بطيء وتدريجي. العصافير تتساقط تباعا على أغصان شجرة التين المنتصبة بخيلاء وسط الفناء. تختفي العصافير بين الأوراق، والأغصان، حتى يصبح من الصعب رؤيتها. لكن زقزقتها ترتفع بشكل مثير يصل إلى حد الإزعاج. ثم لا تلبث أن تطير جماعة، تغادر المكان دفعة واحدة ، كدفقة ريح مفاجئة ، لتبحث عن مستقر جديد.. مرت فطوم بمحاذاة احميدة المستغرق في عمله بتفان مشهود. ألقت عليه تحيتها الصباحية، دون أن تنتظر منه ردا.

استمرت في طريقها نحو الحظيرة. بعد فترة من سماعه لتحيتهان رد عليها، وهي توشك أن تختفي خلف البواية الكبرى للبيت.

فجأة سرت الحياة في جهاز الراديو. ارتفعت وشوشته في الأجواء، أصوات غير واضحة بدأت تنبعث من أحشائه. تظهر وتختفي. اتكأ احميدة في تلك الأثناء على جنبه الأيسر، محاولا أن يريح جسده في جلسة جانبية، تصورها في ذهنه، ثم طفق يبحث عن الوضع السليمن الذي يمكنه من تحقيقها. حين اطمأن لوضعه ، مد يده ثانية نحو الجهاز. امسك مؤشر الصوت بين أنامله ثم شرع يعبث به، يحركه يمينا ويسارا، حتى اطمأن إلى أن الصوت أصبح مناسبا.

عد بعد ذلك إلى موجه الإذاعات، فبدأ يحركه بكثير من الحرص والتأني، في تلك الأثناء كانت الزاهية دائبة الحركة تنتقل من هنا إلى هناك. تحمل بعض الأغطية والأواني من غرفة إلى غرفة أخرى. تبتلعها إحداها للحظات، ثم تلفظها لتبتلعها أخرى. تظهر هنيهة وتختفي. تلقي نظرة حانية على زوجها. يسعدها انهماكه في تشغيل جهاز الراديو. تبتسم خفية، ثم تعود إلى ديدنها. يتوقف المؤشر عند إذاعة "هنا لندن" الناطقة بالعربية. موسيقى عربية تملأ الأجواء. لقد اعتاد أن يستمع إلى هذا النوع من الأغاني عندما يقود سيارة البضائع في رحلاته المتعددة. جادت الإذاعة بعد ذلك بأغنية تبدو من ألحانها أنها أ تنتمي إلى إحدى بلدان المغرب العربي. بعد الاستماع إلى جزء منها ، رجح أن تكون أغنية جزائرية ، وتأكد من تخمينه حينما سأل الزاهية وأكدت له ذلك، تماهى مع ألحانها بانتشاء، عدل الوسادة تحت ذراعه، كي يريح جسده أكثر.. فجأة تنقطع الموسيقى وتتوقف الأغنية. جاء موعد الأخبار الصباحية. صوت المذيع قوي يفرض سطوته على المستمع. بغتة يهتز قلبه بشدة. لا يكاد يصدق ما تلقته أذناه، في نفسه قال "الله" ماذا يحدث؟ لا يمكن أن يحدث هذا الأمر" ..لقد أعلن المذيع أن حربا اندلعت بين الجارين الجزائر والمغرب.. نزل الخبر عليه كالصاعقة. فقد صوته للحظات. لم يستطع أن يتفوه بأي كلمة. شحوب طارئ اكتسحه. كاد يكذب أذنيه ،لكن الخبر كان يتكرر بصيغ مختلفة. لقد أعاد المذيع التأكيد عليه مرارا و تكرارا. و أطلق على الحرب التي استعرت بين الجارين بدون مقدمات "حرب الرمال".. بأصابع مرتعشة غير اتجاه المؤشر. توقف عند الإذاعة الوطنية الجزائرية. عيناه شاردتان، والخوف يلتمع في أعماقهما. اعتدل في جلسته، ثم انحنى أكثر على الجهاز. الإذاعة تبث موسيقى عسكرية، بعض شككه تبدد. يعرف أن هذا النوع من الموسيقى يصاحب الحروب عادة. انتظر قليلا يداعبه ما تبقى لديه من شك في أمر الحرب، ثم ما لبث أن جاءه الخبر اليقين. صوت المذيع الجزائري يعلن بصوت واضح ونبرات قوية بأن الجار الشقيق، ويقصد المغرب، قد قام بهجوم على تراب الوطن. ابتلع ريقه بصعوبة. لا يمكنه أن يصدق أن المغرب قادر على فعل ذلك، حاول أن يحول المؤشر نحو الإذاعة الوطنية المغربية. ذهبت مجهوداته سدى. لم يفلح في ذلك. كل محاولاته المتكررة باءت بالفشل، عاد إلى إذاعة "هنا لندن". جاد المذيع ببعض التفاصيل الإضافية عن الاشتباك الذي وقع في الحدود بين البلدين ، ثم ما لبث أن تطور إلى حرب حقيقية. أشار المذيع إلى أن هناك تدخلا دوليا و عربيا في الحرب بعض القوات التي تنتمي إلى الجيش المصري مشاركة في الحرب إلى جانب الجزائر، و تستخدم أسلحة روسية يشرف عليها تقنيون روس، فيما كانت ايادي الأمريكان و الفرنسيين الخفية توجه المغاربة عن بعد.. وسط ذهوله، نادى على زوجته الزاهية، أخبرها بالحدث، ابتسمت الزاهية ثم طمأنته قائلة:

- لا تشغل نفسك بمثل هذه الأمور. لا يمكن أن يحدث ذلك بين الجزائر والمغرب.نحن إخوة وأشقاء- أضافت قائلة- أبدا لن نتورط في حرب فيما بينا. لا تصدق ما يهذي به جهازك هذا. قم لتتناول فطورك وتذهب إلى ما ينتظرك من عمل.

حاول إقناع نفسه بأن الزاهية تمتلك نصيبا من الحقيقة في كلامها. قد يكون الأمر مجرد مناوشات محدودة وعادية، لكن الإذاعات تضخمها، وتصورها كحرب حقيقية. فآخرما يمكن تصديقه أن يشتبك المغاربة والجزائريون في حرب. فإلى وقت قريب كانت أصداء التعاون فيما بينهما ضد المستعمر الفرنسي على كل لسان، و الجميع تداول بفخررفض المغرب ترسيم الحدود بينه و بين الجزائر بطلب من فرنسا المستعمرة ، ..حتى أن الناس صنعوا من مثل هذه الاخبار خرافات وأساطير ما يزال تأثيرها ساريا إلى اليوم.

تناول احميدة طعام فطوره، وفي نفسه شيء من الضيق ، الذي بدأ يتراجع تدريجيا حتى تبدد إلى أشلاء، لم يفضل منه إلا الشيء القليل. توجه نحو المستودع. أخرج بعض العدة، التي تسلمها من التعاونية الفلاحية، التي تسعى إلى تطوير الإنتاج الفلاحي في المنطقة. مضى في طريقه نحو الحقل، الذي أصبحت تربطه به عرى وثيقة.. لم يعد يتصور حياته بعيدا عنه، دون أن ينهمك في أشغاله في رحابه. يقلب التربة، ويشق الطريق للماء ليمر نحو النباتات والخضروات. لقد تعلم بسرعة الاعتناء بكل ما تحتاجه الأرض كي ترضى، وتمنح طائعة مستسلمة خيراتها المرغوبة. لقد حرص على تنويع مغروساته، لذا لا يكاد ينتهي من العمل على طوال أيام السنة. كلما انتهى موسم غنتاج نوع معين، بدأ موسم إنتاج نوع آخر.

استبد بوجدانه بستان الطماطم. نظر بفرح إلى الثمار المتدلية من عناقيدها.. كانت الطماطم ناضجة، تغزوها الحمرة تدريجيا حتى قضت على الإخضرار المائل إلى الصفرة الذي كان يهيمن عليها إلى وقت قريب. هذه الحمرة الخجولة التي تعلن عن نفسها بحذر تبعث في نفسه الكثير من الانتشاء والثقة في المستقبل.

تحسس بيديه الحانيتين بعد العناقيد. لامس بعض الثمار الناضجة، قلبها من كل الجهات. أشعره ذلك بكثير من الرضى.. حانت منه التفاتة مفاجئة نحو الجهة الأخرى. وقع بصره على جاره الحاج "لخضر"، يمر بسرعة دون أن يلقي عليه تحية الصباح كعادته. استغرب الأمر. لم يستغرقه التفكير في ذلك كثيرا، إذ سرعان ما انتشل نفسه مما هو فيه، ورفع صوته مناديا:

-آلحاج لخضر، صباح الخير.

لم يحفل الرجل بتحيته. استمر في مشيته المتعجلة. استغرب احميدة هذا التصرف من جاره، الذي يكن له كل الود، كان يعرف طبعه الحامي والعصبي. إنه من رجالات المقاومة، الذين كانوا شديدي المراس في محاربة الفرنسيين، وحين انتهت الحرب، وعاد الفرنسيون إلى بلدهم يجرون أذيال الخيبة، رفض أن يتسلم أي منصب، كان دوما يردد بأنه قام بواجبه وانتهى كل شيء. عاد إلى أرضه في البادية يداعب تربتها ويستخرج من أحشائها أنواعا من الخيرات. لم يكن يتحمل أن ينتقد أحد الجزائر أويذكرها بأي كلام غير لائق. يعلن دوما بأنه مستعد لحمل السلاح من جديد من أجل أن تظل الجزائر حرة كريمة.

وضع احميدة المعول الذي كان يرتاح على كتفه أرضا، قرب الجدول المائي الصغير، الذي كان ينساب متدفقا ليسقي الأغراس العطشى. ركض باتجاه الرجل.. دنا منه بشكل كبير. ناداه. لم يتوقف الرجل. تناسلت الشكوك في ذهنه. أصر على ملاحقته. لم ينل التجاهل الذي حظي به من الجار من عزيمته، أخيرا لحق به ثم أوقفه قائلا:

- ماذا بك. آلحاج لخضر. ماذا حدث. لم أنت غاضب مني. هل بدر مني – لا سمح الله- تجاهك أي أمر مشين؟

غاضبا ومتوترا رد الحاج لخضر:

- ألا تعرف ما حدث؟ انتم غادرون. لقد هاجمتم بلادنا ، وهي لم تتعاف بعد مما ألحقه بها الكفار الفرنسيس.

عادت ملامح صوت مذيع "هنا لندن" إلى احميدة قوية ومستفزة ومقنعة.بإصرار طرد تأثيرها عن ذهنه ، ثم رد على جاره:

- وما دخلي أنا بالأمر؟

ودون أن ينتظر إجابة منه ، أردف متسائلا:

- هل حقا اندلعت الحرب؟

-نعم اندلعت. وسوف تدفعون ثمن وقاحتكم. ستعرفون ما يستطيع القيام به أحرار الجزائر.

انصرف الجار حاثا سيره نحو حقله، ينثر من حوله كلمات غاضبة، ينفثها بغضب، علها تشفي غليله، وتحرر نفسه من وطأة ما يشعر به من حنق وعنف تراكم في دواخله. فيما ظل احميدة متسمرا في مكانه، شارد الذهن، مضطرب المشاعر.. أحس بالوهن والغبن، كان يظن أنه أصبح ينتمي إلى هذا الوطن عندما تخلى عن كل شيء، واختار أن يستقر في أرضه، بل تزوج من إحدى بناته، ونسي إلى الأبد المكان الذي جاء منه. الشمس ترسل أشعتها بقسوة. حرارتها تشتد تدريجيا، حتى أضحت لا تحتمل، بعد أن توسط قرصها كبد السماء أو كاد يفعل ذلك. ظل على حاله هاته لبعض من الوقت، ثم انتبه إلى نفسه وإلى وضعه البائس، انتشل نفسه مما هو فيه، تخلص من حالة الشرود التي هيمنت عليه. ألقى بنظره بعيدا حيث مضى "الحاج لخضر". بدا له من مكانه بعيدا جدا. لم يجهد نفسه في تتبع هرولته. بل طفق يجر خطواته، يسعى نحو حقله ،الذي يحتاج كل وقته وجهده. قدماه تصطدمان بالأعشاب الطرية الناعمة، تجنب الحجارة التي تنتشر على امتداد الحدود الفاصلة ما بين الحقول. بعقل مشوش توجه نحو المكان الذي غادره قبل قليل.. حين توسط حقله، شعر بتعب كبير يتسلل إلى جسده. لم يعثر في أعماقه على الطاقة اللازمة ، التي تسعفه للاستمرار في عمله.. الأحداث الطارئة المفاجئة تنيخ بثقلها على نفسه. قرفص جانبا، يفكر في المصير الذي ينتظره. حتما ستنغرس العداوة عميقا في قلوب الناس، وسيؤدي الأبرياء الثمن. حتى جاره الذي كان يعتز بصداقته، ويعرف حق المعرفة نبله وطيبوبته رغم قوته وصلابته، خاطبه بطريقة أبدا لم تكن تخطر له على بال. ماذا سيكون رد فعل الآخرين خاصة السفهاء من الناس الذين لا يفقهون عمق الأمور، وإنما تغلب عليهم عواطفهم ويتأثرون بسرعة بما يتداوله الناس بينهم حتى وإن كان بعيدا عن الحقيقة والصواب.. حاول جاهدا طرد هواجسه بعيدا. لم يفلح في ذلك عادت به الذكريات القهقرى إلى طفولته في فاس.. شعر بحنين كبير إلى مسقط رأسه. لأول مرة يشعر بذلك، ينتابه بعض الندم لأنه فرط في جذوره. فكر في العودة إلى هناك إذا ما ساء الوضع هنا، يحمل زوجته وابنه وحماته ويرحل. لكنه لم يسافر إلى فاس لأكثر من عشر سنوات، ولا يعرف شيئا عن أهله. لقد استبدل وطنا بوطن آخر.. هنا في هذه الأرض، التي امتصت الكثير من عرقه، انغرست جذوره من جديد. لا يتصور لنفسه حياة في أي مكان آخر بعيدا عن هذا المكان. فاس ذكرى بعيدة. مجرد أطياف تتراقص في الذهن في فترات متباعدة، تزوره في أحلامه كأشباح لا يستقيم لها معنى، هنا وطنه، ولن يغيره بأي وطن آخر في الدنيا بأكملها. حين بلغ هذا الحد من التفكير، تداعى معها بكثير من الإصرار، حضرت الزاهية إلى ذهنه قوية ومتألقة. قريبا جدا ستنجب له ابنا يرسخ قدميه أكثر في هذه الأرض التي أحبها، ولا يبغي عنها بديلا.. في تلك الأثناء، وهو هائم في تخيلاته. رأى شخصا قادما من بعيد، يتجه نحوه باصرار، لم يهتم بذلك، وإنما استجمع أنفاسه وقوته، وأمسك بمعوله، حمله على كتفه، واستأنف جولته في رحاب الحقل، يبحث عن الممرات التي لم يبلغها ماء السقي بعد.. حانت منه التفاتة نحو القادم البعيد. فإذا به يصبح قريبا. ملامحه الكبرى بدأت تنجلي وتتضح تدريجيا.. تأكد الآن أنه يعرفه. إنها حماته، تتعثر في مشيتها المضطربة، تتحاشى النباتات الشوكية والأحجار المستلقية في كل مكان. ترافقها الكلبة المائلة إلى السواد، التي اعتادت مرافقتها إلى كل مكان. الكلبة تتقدم الحماة للحظات، ثم ما تلبث أن تتأخر عنها. تبتعد قليلا وتقترب الحماة جادة في سعيها، مما دفع احميدة ليضع المعول أرضا، خاصة حين تأكد من هويتها بما لا يدع مجالا للشك، اتكأ على عصا المعول، واستمر في احتضان المرأة القادمة المهرولة بعينين شكاكتين و متسائلتين. وضع راحته على جبينه ليتحاشى أشعة الشمس التي أصبحت أكثر عنفا وعدوانية. وقى عينيه من الأذى، وهو يرنو متطلعا إلى الجسد المتضائل، الذي يترنح بإصرار نحوه.

انتظر احميدة في مكانه، ثم ما لبث أن زحف تحت ظل شجرة وارفة الظلال، وهو يستعد لاستقبال حماته "فطوم" التي يبدو أنها تنقل إليه خبرا مهما، ربما يزيح عن قلبه ما تراكم فيه من هموم هذا الصباح بأحزانه المثيرة. أوربما تحمل له خبرا يعمق المأساة في قلبه.

توقفت الحماة أمامه وهي تلهث. تنفسها يعبر عن حالة الإجهاد التي تبدو عليها. تحاول أن تتحدث، لكنها لا تتوقف في ذلك، طلب منها أن تقتعد الأرض حتى تسترجع أنفاسها. لم تفعل ذلك، وإنما وضعت يدها على صدرها، ثم قالت مخاطبة إياه:

- هل هذا وقت الجلوس؟ ابنتي فاجأها المخاض، ستلد قريبا، يجب نقلها إلى المستشفى.

رد عليها مندهشا:

- ولم لا تنجب في البيت؟

- لقد جاءت القابلة وفحصتها. ثم أخبرتني بأن حالتها صعبة ولا يمكن أن تلد في البيت. يجب نقلها إلى المستشفى.

وقع الخبر على احميدة وقعا قويا ومفاجئا. لم ينتظر هناك لحظة، وإنما انخرط في الركض نحو البيت. أخذت حماته تناديه كي ينتظرها. لم يلتفت إليها، بل استمر في ركضه، لا يلوي على شيء سوى أن يدرك زوجته وابنه المرتقب قبل أن يصيبهما أي مكروه.

حين أطل من الباب بدت له النسوة مجتمعات حول غرفة النوم، اخترق الجمع بإصرار. توقف قرب زوجته، ثم سألها متلهفا:

-ماذا يحدث لك؟ هل أنت بخير؟

بصوت متهالك واهن ردت عليه:

- هيا، حضر العربة كي تنقلني إلى المستشفى.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حسن الرموتي




عدد المساهمات : 3
تاريخ التسجيل : 29/04/2014

أسلاك شائكة  الفصل الأول   مصطفى لغتيري Empty
مُساهمةموضوع: رد: أسلاك شائكة الفصل الأول مصطفى لغتيري   أسلاك شائكة  الفصل الأول   مصطفى لغتيري Emptyالثلاثاء أبريل 29, 2014 10:55 pm

قرأت الرواية منذ مدة ..رواية معاناة انسانية ...ضحايا التهجير القسري الجزائري للمغاربة .. بوركت سي مصطفى
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مصطفى لغتيري
Admin



عدد المساهمات : 14
تاريخ التسجيل : 28/04/2014

أسلاك شائكة  الفصل الأول   مصطفى لغتيري Empty
مُساهمةموضوع: رد: أسلاك شائكة الفصل الأول مصطفى لغتيري   أسلاك شائكة  الفصل الأول   مصطفى لغتيري Emptyالأربعاء أبريل 30, 2014 8:39 am

شكرا صديقي المبدع سي حسن.. محبتتي وتقديري.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
أسلاك شائكة الفصل الأول مصطفى لغتيري
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» إليك مصطفى لغتيري
» جريدة العرب تحاور مصطفى لغتيري
» حذر: مصطفى لغثيري، ترجمة الطاهر لكنيزي

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: غاليري السرديات :: الرواية-
انتقل الى: