على أعتاب المكاشفة
مصطفى لغتيري
حين حط الرحال بالمدينة، لم يتباطأ في التوجه نحو الآثار المحاذية لها. شغف بالأبنية القديمة اكتسحه من حيث لا يدري. فإلى عهد قريب، أبدا لم يحفل بوجودها. لم تكن - بالنسبة له - سوى حجارة صماء لامعنى لها، بل هي تافهة وزائدة عن اللزوم. في المدة الأخيرة، ونتيجة لعملية كميائية ما، حدثت في دواخله، لمس ميلا غامضا نحو هذه المعالم الأثرية. نظرته نحوها مافتئت تتغير.. شيئا فشيئا استبد به عشقها، فانبثق له معنى من ثناياها. هكذا، أصبح كلما زار إحداها، أصاخ السمع برهافة، ليلتقط ذبذباتها الصامتة. حينها تنكشف له أسرار من ماض، يأبى أن يظل طي الكتمان.. لايدري كيف حدث ذلك؟ فقط، هو متأكد، أنه بشكل ما نطق الحجر، تلقف بَوْحَهُ، فانتسجت علاقة حميمية بينهما.. لم يكن بد - حينئذ - من أن يفقد حياده نحو الآثار، بشتى أنواعها.
حين أشرف على البقايا المتناثرة، لاحت له غافية في رحاب التلال.. هبت على سحنته بعض من نسائمها، فاختلج الفرح في أعماقه.. كان حريصا أن يكون المكان خاليا من البشر، فاختار اللقاء قبيل الغروب.. الشمس أضحت برتقالة كبيرة معلقة في الفراغ، ظلال كابية تنتشر على امتداد البصر، تمازجها حمرة أرجوانية، تكلل ذرى النجود. وتستلقي في بعض الفجاج والفجوات.. شيء من الرهبة داهمه، وهو يطأ أرض المدينة المنسية.. السواري المتبقية والخلفية - من ورائها - تقدمان نفسيهما لوحةً لا أجمل منها.. طفق يخطر بين الجدران والأعمدة، يتطلع في الفجوات، يترصد بقايا الأرصفة، يستحضر أقداما بلا حصر، من الزمن الغابر، وطأت هذا المكان.
بعد لحظات من التجوال، اختار موقعا مناسبا، يسعفه في احتضان المشهد، كل المشهد بعينيه المتعطشتين.. أبدا لم يكتف بالنظرة العامة، الشاملة. التقط بصره أدق التفاصيل╙ الخطوط الدقيقة المنتشرة عبر الأبنية، أنواع الحجارة وأشكالها، تنوع هندستها.. الأقواس الدارس أكثرها.. كل ذلك أشعره بانتشاء لايقارن.. حينها فقط، أحس أنه على أعتاب المكاشفة. هسهسة الريح وطدت لديه اليقين، بأنه حثيثا يدنو من مبتغاه. مدد أطرافه في ارتخاء تام. الخدر أخذ يتسلل إلى كيانه، لم يقاومه، بل تماهى معه إلى أقصى الحدود.. فجأة لاحت له أطياف ملتبسة، تدريجيا راحت تحتل المكان من حوله، لم يرعبه ذلك، بل فاجأه.. برباطة جأش حافظ على هدوئه.. فقط اكتفى باختلاس النظر، إحساس قوي تبرعم داخله، بأن أي نأمة قد تطيح بكل شيء. ابتسامة خفرة احتلت شفتيه. هاهو ذا الوعد السري يتحقق من جديد. الآثار تكشف له أسرارها دون مواربة.. بمرور الزمن أخذت ملامح الأطياف تتضح، البنايات المهدمة تكتسب أجزاءها الضائعة، والأقواس في أتم اكتمالها، إنها في أبهى عنفوانها. الجدران، كل الجدران تنتصب قائمة. كأنها بنيت منذ زمن قريب. طازجة لم تزل، تفوح طراوة وبأسا.. هاهي الصور تتدفق جلية. أول ما ميز منها حراسا.. على رؤوسهم خودات صقيلة. يمتشقون رماحا مسننة. سيقانهم عارية. ينتظمون في طابور صغير، محافظين على تناسق حركاتهم.. أبهجه المشهد إلى أبعد الحدود. التزم الصمت وهو يرنو إليهم. بغتة توجه أحدهم نحوه، خفق قلبه.. تحفزت أعصابه، مستعدا لكل طارئ.. مر الجندي أمامه، لم يحفل بوجوده. حينذاك تيقن أن وجوده ليس مؤكدا، فما عليه إلا أن يلزم مكانه دون أن يخدش هذا العالم، الذي يقدم له نفسه دون تحفظ.. بحرص، استرق النظر نحو الجهة الشرقية من موقعه. امرأة ترتدي ملابس مختلفة. لم يلمس قاسما مشتركا يجمعهما بالجنود. على رأسها تحمل سلة ممتلئة. قدر أن فيها خضرا أو فواكه.. إنها بلاشك، امرأة محلية. لفتت انتباهه ضفيرتاها المستلقيتان على كتفيها. أنواع من الحلي تتوزع على امتداد الجسد. حين أمعن النظر، راعه كثرة الوشم على وجهها ويديها. كانت ترطن بكلمات مبهمة، تتوجه بها نحو الجنود لإثارة انتباههم.. بائعة هي، بلا ريب، تعرض بضاعتها. جمالها لافت، وإن كانت الأسمال على جسدها لا تفي بالمطلوب.. خلفها كلب من فصيلة محلية، يقتفي خطواتها.. حين مرت بجانبه، تطلع إليها بكل جسارة. لم تحفل بوجوده. بحسرة تذكر أن وجوده زئبقي، مخاتل، فاكتفى بالمشاهدة. هي أكثر ما يصبو إليه. تجاوزته المرأة مستمرة في ندائها.. لم يمض زمن طويل على عبورها حتى ارتفع ضجيج في الأجواء.. فزعا التفت نحو مصدره، التقطت عيناه مشهدا استفزه. جنديان يسحبان رجلا، يبدو أنه من السكان المحليين، يستغيث بلاجدوى. هكذا قدر كلماته التي لم يفهم منها شيئا. كان الجنديان فظين، متسلطين.. فكر أنه باسم قانون ما يفرضان على الرجل سطوتهما. إحساس بالمرارة اكتسحه، إنه عاجز عن فعل أي شيء. فقط تألم وهو يتابع خطوات الرجل المرتبكة.. لا يدري كيف استقر في خلده، لحظتها، أن الأمور لم تتغير، وأن العالم - منذ الأزل - محكوم بنفس المنطق، الأشكال تتبدل، أما العمق فواحد.
في تلك الأثناء، وهو يتماهى مع أحاسيسه، رجَّه صوت مختلف لا ينتمي إلى العالم الذي يكشف له نفسه.
┐آسي محمد، آسي محمدî
بشدة انتشل نفسه مما هو فيه، فإذا برجل من زمانه الآني يناديه. كان يبعد عنه بأمتار قليلة. تدريجيا لملم شتات ذهنه، أحس وكأنه يستفيق من نوم عميق. لم يفسح الرجل له المجال حتى يرتب العالم من حوله. خاطبه بشيء من الغلظة╙
- ممنوع الجلوس في هذا المكان بعد غروب الشمس.
اعتذر من الرجل، مسح الأبنية بنظرة وديعة، ثم حمل كيانه. غادر المكان، وعلى ملامح وجهه يستلقي شرود، لم يقو على انتزاع نفسه منه، إلا وهو في أحضان المدينة، التي حط بها الرحال صبيحة ذلك اليوم.