قط إدغار ألان بو
مصطفى لغتيري
على بعد خطوات من التلفاز، كنت أتمدد على الأريكة .. بعينين متعبتين أتتبع حركات البطل، وهو يتنقل في أماكن متعددة.. حركاته السريعة أربكتني. في أعماقي تساءلت عن جدوى تنقالاته الدائمة.. إنه لا يكاد يستقر في مكان بعينه.. بين لحظة و أخرى تداهمني حالة من التركيز.. خلالها أحاول لملمة شتات الأحداث، لأرتبها ضمن نسق ، أستجلي منه معنى ما. ما إن أطمئن إلى ما وصلت إليه ، حتى تنفلت من جديد خيوط الحبكة من بين أصابعي.. أتيه ثانية في سراديب لا نهائية.. البطل – اللحظة- يركض بدون هدى. فقط يمضي أينما اتفق ، و أنا ألهث وراءه ببصري الوسنان. فجأة يتوقف البطل . عيناي تتحفزان . تنفضان الخدر الذي يداعبهما. تركزان عليه.. بتوتر يستكشف البطل المكان من حوله، و كأنه محاصر بجيوش لا مرئية.. بغتة يقع بصره على قطة قرب القمامة.. بحذر يدنو منها ، و هو يلهث لهاثا يشي بمدى تعبه، فيما تحفزت القطة للدفاع عن نفسها.. في دواخلي تساءلت" ما الذي يجعل البطل مهتما بهذا الكائن البئيس؟" .حذرا دنا منها بشكل كبير، شعرت القطة بحركته، فانتفضت فزعة.. ركضت في اتجاه زقاق ضيق. ركض البطل خلفها. لا أفهم، حتى الآن، لم يطاردها. لا بد من سبب وجيه دفعه لفعل ذلك.. تململت في مكاني، محاولا تجنيب ظهري بعض الألم ، الذي مافتئ يناوشني ببطء و ثبات. الدفء يتسرب إلى جسدي.. البطل يكاد يفقد رشده، وهو يبحث عن القطة، التي اختفت عن الأنظار .. بعصبية ركل أوعية القمامة ، فأحدث ضجة، فر على إثرها كثير من الحيوانات الضالة.. في آخر الزقاق كان متشرد يجلس القرفصاء يعاقر قنينة مشروب روحي.. بين الفينة و الأخرى يعب منها جرعة. ركزت الكاميرا على ثيابه الرثة. تدريجيا استقرت على وجهه المتسخ بلحيته المائلة إلى الاصفرار. استجمع المتشرد قواه.. انتصب واقفا وهو لا يكاد يستقيم في وقفته. القنينة تتمايل في يده يحركها بتوتر.فجأة انخرط في سورة من الغضب و هو يرشق البطل بألفاظ نابية.. في حالة هستيرية دنا البطل منه.. أمام ذهول المتشرد أشهر مسدسا . صوبه في اتجاهه.. استعاد المتشرد بعضا من وعيه. بعنف سأله البطل:
- أين القطة؟
باستغراب حملق فيه المتشرد، ثم بتلعثم أجاب:
- عن أي قطة تتحدث . القطط كثيرة هنا.
- أردف البطل:
- القطة التي كانت تركض قبل لحظات.
بخوف رد االمتشرد:
- لا أعرف أي قطة تقصد.. أقسم أنني لا أفهم شيئا.
شتم البطل المتشرد بعبارات ساقطة، ثم استأنف ركضه.. لحظتها تسلل الخدر إلى أعماق نفسي.. تدريجيا فقدت السيطرة على بصري، فرحت في غفوة.. مستغربا رأيت نفسي أركض داخل الشاشة.. قلبي ينبض بشدة.. العرق يتصبب من كل مسام جسدي .. خائفا كنت بسبب قط ما نط فجأة أمامي.. أرعبني ذلك .. لا أدري من أين انبثق لي هكذا على حين غرة.. عيناه شعلتان متأججتان. كشر عن أنيابه ، و أبرز مخالبه مستعدا ليغرزها في جسدي.. ذكرني بقط ادغار آلان بو في قصته الشهيرة.. مرتجفا حملقت فيه ، فإذا به ينمو بسرعة .. جسده يتضاعف.. أصابني ذلك بالهلع .. لم أملك لحظتها سوى أن أركض هاربا ، لا أدري لي وجهة. فقط كنت أحاول أن أنجو بنفسي من هذا الوحش الضاري.. الخوف يستبد بكياني، و نبضي يكاد يتوقف. فجأة هزني صوت مفزع. مدويا كان و كأنه صوت قنبلة. انتفضت فزعا، فإذا بي متمددا على الأريكة ما أزال.. فركت عيني جيدا.. حملقت في الشاشة، فرأيت البطل متألما يجر قدميه.. ثيابه ممزقة ، و بقايا دخان علت سحنته . في نفسي قلت : " لعله تعرض لكمين" .. قدرت – حينئذ- أن الصوت الذي أيقظني صوت قنبلة ، قد تكون انفجرت بالقرب منه .. مجددا حاولت الإمساك بخيط ينتظم الأحداث.. كان البطل وحيدا ، تائها ، زادت حالة هندامه من مأساته . هذه المرة لم يكن يبحث عن القطة ، بل يظلع في مشيته متجها نحو مركب يرسو في ضفة النهر . هنالك في الضفة المقابلة كانت امرأة تلوح للبطل بيدها، تزين وجهها ابتسامة عريضة . "لقد أوشك الفيلم على نهايته " قلت في نفسي . مددت يدي صوب جهاز التحكم عن بعد ، وجهته صوب التلفاز . ضغطت على الزر فأخمدت الحياة فيه .. ثم انقذفت في أحضان نوم عميق.